الوفاء بالوعد قاعدة أساسية من قواعد توفير الثقة
في المجتمع ، ومنهج عملي في التربية على الالتزام الذاتي . . فالإنسان
عندما يقطع عهداً ، أو وعداً على نفسه ،
إنّما
يُنشئ عقداً والتزاماً ، وإلزاماً ذاتياً لنفسه ، فيكون مسؤولاً عن الوفاء
به . والوفاء بالوعد صفة من صفات الله تعالى . . وهذه المسألة كانت موضع
خلاف بين الشيعة الإمامية والأشاعرة . . فقد ذهبت الشيعة الإمامية إلى أنّ
الله سبحانه لا يمكن أن يخلف وعده . . فقد وعد بمعاقبة المسيء ، ومجازاة
المحسن بالجنان والنعيم يوم الجزاء ، ويجب على الله الوفاء بوعده ، وهو
سبحانه قد يعفو عن المسيء ، ولكنّه لا يضيع أجر المحسن . . ورد عليهم
الأشاعرة بأنّ الله لا يجب عليه الوفاء بما وعد ، فهو عزّ وجل لا يُسأل
عما يفعل . . وتلك إساءة فهم من الأشاعرة للآية الكريمة : (لا يُسأل عما
يفعل وهم يسألون ) . تلك مسألة لا تحتاج إلى مثل هذا الجدل اللفظي . .
فالقرآن ناطق بتلك الحقيقة ، قال تعالى : (وعد الله لا يخلف الله وعده
ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) (الروم / 6) . وكم أمر القرآن بالوفاء بالعهد
وأثنى على إسماعيل (عليه السلام) لوفائه بالوعد ، وعرضه نموذجاً أخلاقياً
في ذلك ، قال تعالى : (واذكر في الكتاب إسماعيل إنّه كان صادق الوعد وكان
رسولاً نبياً ) (مريم / 54) . والرسول الهادي محمد (ص) كان المثل الأعلى
في الالتزام الأخلاقي ، فهو القائل : «بعثت لأُتمم مكارم الأخلاق» .
والوفاء بالوعد خلق من أهم ما يحمله الإنسان من أخلاق فاضلة . . فالزمان
والمكان والموضوع الذي يعد الإنسان بفعله أو تركه له الأثر الكبير في حياة
الانسان ، وليس من المعقول العبث بتلك العناصر الحيوية في حياة الإنسان .
. وللوفاء بالوعد علاقة بالثقة بذلك الإنسان واحترامه لذاته وللكلمة التي
يطلقها ذلك الواعد ، كما له علاقة باحترام الطرف الآخر الموعود . . احترام
وقته وشخصيته ومشاعره النفسية ، والاهتمام بقضيته التي يعده بها وبمصلحته
، فكثيراً ما يضيّع خلف الوعد الوقت والمصلحة ، بل قد يجلب الضرر على
الآخرين ، كما يفقد الثقة بمن يعد ولا يفي لغير عذر مشروع . وفي دراستنا
لسيرة الرسول (ص) العملية نجده مثال الوفاء بالوعد ، والصدق في القول
والعمل . . وآثرنا في هذا البحث أن ننقل صورة رائعة من صور الوفاء النبوي
الكريم : فعن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) أنه قال : «كان
رسول الله (ص) واعد رجلاً إلى صخرة فقال : أنا لك هنا حتى تأتي ، قال :
اشتدت الشمس عليه ، فقال له أصحابه : يا رسول الله ، لو أنك تحوّلت إلى
الظل قال : وعدته هاهنا ، وإن لم يجئ كان منه الحشر»(1) . إنّها القدوة
والتربية العملية لأصحابه (ص) على الوفاء بالوعد ، ولمن يقودهم ويتعامل
معهم ، ويأمر بالصدق والوفاء . . إنّه لا يريد أن يتزحزح عن المكان ، ولو
لخطوات ، وإن تحمل أذى الشمس وحرّها ليفي بكلمته التي أطلقها : «أنا لك
هنا» . . لذلك يجيب أصحابه : «أنا وعدته هاهنا» . إنّه الاحترام الصادق
للوعد وللكلمة ، والتربية على الالتزام الذاتي ، وتركيز الثقة بالعهود
والمواثيق .