مقدمة :
إنّ مرحلة الشباب مرحلة خطيرة جدّاً في حياة الإنسان ، وهي مرحلة تتخلّلها فترة
المراهقة الحسّاسة ، وإن الحديث عنها والبحوث حولها عديدة ومكثّفة ، فلهذا ارتأينا
تقسيم البحث في هذا الموضوع إلى عدّة فصول بحيث يخص كلّ واحد منها جانباً من جوانب
التربية .
الفصل الأوّل : التربية الدينية والقرآنية :
إنّ الله تعالى خلق عباده وأودع فيهم مواهب وقدرات ، وخلق لهم السماء والأرض
والبحار ، وسخّر لهم ما فيها جميعاً ، وأغدق على الإنسان نعمه المستفيضة ، ممّا
يوجب طاعته والشكر له وعبادته ، وهو سبحانه القائل : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ
يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ
قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ )
النور : 41 .
وإنّ العبادة تتّخذ أشكالاً منوّعة ، يؤدّيها كل مخلوق حسب خلقته وقدرته وإدراكه
، كما يفهم ذلك من قوله تعالى في الآية المتقدّمة : ( كُلٌّ قَدْ عَلِمَ
صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ) .
والأفضل للمرء أن يتّجه إلى ربّه في كل الأمور ، يسيرها وعسيرها ، فيعوّد نفسه
منذ صغر سنّه على الصلاة وإقامتها في أوقاتها ، في السرّ والعلانية ، ليحصل على
أكثر قدر ممكن من الثواب باكتساب فضيلتها .
وقد حبّب الله عزَّ وجلَّ للمصلّين أن يقيموها في أوقاتها الشرعية المخصّصة لها
، وبيّن الباري لهم فضل ذلك وأجره ، إذ قال عزّ من قائل : ( وَأَقِمِ الصَّلوةَ
طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ
السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ) هود : 114 .
وقال ( صلّى الله عليه وآله ) : ( علّموا صبيانكم الصلاة ، وخذوهم بها إذا
بلغوا الحلم ) .
كما أنّ الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) كان يعّود الصبيان والشباب على
إقامة الصلاة في وقتها ، وذلك لكسب فضيلتها وأجرها ، إضافة إلى أجر الصلاة ذاتها .
وقد روي أنّه ( عليه السلام ) كان يأمر مَنْ عنده من الصبيان بأن يصلّوا الظهر
والعصر في وقت واحد ، والمغرب والعشاء في وقت واحد ، فقيل له في ذلك فقال ( عليه
السلام ) : ( هو أخفّ عليهم ، وأجدر أن يسارعوا إليها ولا يضيّعوها ، ولا
يناموا عنها ، ولا يشتغلوا ) .
وكان لا يأخذهم بغير الصلاة المكتوبة ( المفروضة غير المستحبّة ) ، ويقول ( عليه
السلام ) في هذه المجال : ( إذا طاقوا الصلاة فلا تؤخّروها عن المكتوبة )
.
أمّا في مسألة تلاوة القرآن الكريم وحفظه ، فقد ورد عن رسول الله ( صلّى الله
عليه وآله ) أنّه قال : ( من قرأ القرآن وهو شابّ مؤمن اختلط القرآن بلحمه ودمه
، وجعله الله عزَّ وجلَّ مع السفرة الكرام البررة ) .
وينبغي أن نعي بأنّ الآباء لو ربّيا أبناءهم على ذكر الله عزَّ وجلّ ، وأداء
الصلاة في أوقاتها ، والمواظبة على تلاوة القرآن الكريم ، فسيكون لهم عند الله جلّ
وعلا أجراً عظيماً وثواباً كريماً .
وأنّ الرسول الأكرم ( صلّى الله عليه وآله ) قد حث الأبوين على تعليم أبنائهما
المواظبة على تلاوة القرآن الكريم : ( ومن علّمه القرآن دعي بالأبوين فيُكسيان
حلّتين ، يضيء من نورها وجوه أهل الجنّة ) .
الفصل الثاني : التربية النفسية والسلوكية :
يسعى الدين الإسلامي الحنيف إلى معالجة الأفراد معالجة نفسية ، وإعدادهم ليكونوا
أعضاء صالحين نافعين في المجتمع الإسلامي .
وهو بذلك يرمي إلى غرس روح الثقة والاطمئنان والأمان والهدوء والراحة النفسية
عند الإنسان ، خاصّة عندما يعده بالأجر والثواب والمغفرة وقبول التوبة والجنّة .
فعلى كل من الوالدين والأسرة والمعلّم والمجتمع والدولة والمتصدّين لعملية
التربية ، أن يجتهدوا في زرع الثقة والطمأنينة في نفوس الأبناء .
فبذلك يتمكّنوا أن يحرّرونهم من تأثيرات الخوف والاضطراب والقلق والشعور
بالدناءة والضعة ، وكل ما يؤدّي إلى سحق شخصيّاتهم وانهيارهم النفسي ، ليخرجوا إلى
المجتمع الإسلامي صحيحين سالمين ، وذو شخصيات قادرة على أداء دورها المسؤول والنافع
بأفضل صورة ممكنة .
وتفيد بحوث وتجارب المحلّلين النفسانيين والأطبّاء والعلماء وخبراء علم النفس
وعلم الاجتماع ، بأنّ جانباً كبيراً من السلوك البشري يتكوّن من استجابة داخلية
لمؤثّرات خارجية ، مثل المال والجنس والجاه وغير ذلك .
وأنّ ردّ الفعل المتكوّن عند الإنسان لكلّ منها إنّما يتحدّد بطبيعة ملكته
النفسية ، وقدرته على مجابهة ما يشعر بضرره له ، فلا ينقاد إليه ، وعلى هذا يتحدّد
موقفه من هذا المؤثّر أو ذاك .
ومّما يذكر أنّ تربية الإنسان المتوازنة نفسيّاً وأخلاقيّاً وسلوكيّاً لها أثرها
الكبير على استقرار شخصيّته ، وسلامتها من الأمراض النفسية ، والعقد الاجتماعية
والحالات العصبية الخطيرة ، وحالات القلق والخوف التي كثيراً ما تولّد لديه السلوك
العدواني ، فينشأ فرداً مجرماً خبيثاً مضرّاً فاسداً في المجتمع .
والشريعة الإسلامية ترى بأنّ من أهم الأمور المؤدّية إلى طمأنينة النفس وارتقاء
مستوى وعي الإنسان ، وبالتالي إلى توازنه النفسي والمعيشة في ظل الحياة الطيبة هو
ذكر الله ، وذلك لأنّ الذكر كما ورد عن الإمام علي ( عليه السلام ) : ( الذكر
نور العقل ، وحياة النفوس ، وجلاء الصدور ) .
ولهذا ورد في الدعاء الذي علّمه الإمام علي ( عليه السلام ) لكميل بن زياد (
رضوان الله عليه ) : ( اللهمّ اجعل لساني بذكرك لهجاً ، وقلبي بحبّك متيّما
) .
وذلك ليبقى الإنسان المؤمن في ظل ذكره لله عزَّ وجلَّ متمتّعاً بالصيانة التي
تردعه عن ارتكاب ما يخل في توازنه النفسي أو اعتدال سلوكه .
الفصل الثالث : التربية العقلية والعلمية :
قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) : ( إنّ العلم حياة القلوب من الجهل
، وضياء الأبصار من الظلمة ، وقوّة الأبدان من الضعف ) .
وذكر الإمام علي ( عليه السلام ) في إحدى مراسلاته : ( إنّ قيمة كلّ امرئ
وقدره معرفته ، إنّ الله تبارك وتعالى يحاسب الناس على قدر ما آتاهم من العقول في
دار الدنيا ) .
فالإنسان مخلوق عاقل مفكّر ، يستطيع أن يدرك الأشياء ويتعلّمها بوعي ، ويمكنه
الاكتساب وتعلّم المعارف والعلوم بواسطة إدراكه لعالم الطبيعة عن طريق تأمّله في
الكون وفيما خلق الله عزّ وجلّ .
وبالعلم والمعرفة تتحدّد شخصيّة الإنسان ، وتقوّم قيمته ، كما تقدّم في الحديث
الذي مرّ ذكره عن الإمام علي ( عليه السلام ) .
وقد تصدّرت الأمم والمجتمعات مواقعها في التاريخ ، وسادت البشرية وتزعّمت
قيادتها عن طريق العلم والمعرفة ، اللذين جلبا لها القوّة والقدرة العسكرية .
وقد أراد الله عزَّ وجلَّ بالعقل الذي وهبه للإنسان أن يصل به إلى العلم
والمعرفة والكمال ، لينتفع به وينفع غيره ، وأن يكون رحمة للناس كافّة .
والله تبارك وتعالى مدح أهل العلم في قرآنه الكريم فقال مبيّناً فضلهم : (
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا
يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ) الزمر : 9 .
وقال تعالى أيضاً : ( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ
أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا
الْأَلْبَابِ ) الزمر : 18 .
كما حثّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) المسلمين على طلب العلم والمعرفة ،
فجعلها فريضة وواجباً على كلّ مسلم ومسلمة إذ قال : ( اطلبوا العلم ولو في
الصين ... فإنّ طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ) .
من هنا نرى أنّ واجب الوالدين ضمن النشاط الأسري لهما ووظيفة المعلّم خلال أدائه
لواجبه الشريف هو تعريف الأولاد بحياة العلماء وأصحاب المعرفة السابقين ، الذين
أرسوا قواعد العلم والمعرفة والفضيلة ووسائل الحضارة البشرية ، ونشروا العلم بمختلف
صنوفه أينما حلّوا في هذه الدنيا .
وأن يتحدّثوا لهم عن تجاربهم وعلومهم وفضائلهم ، بأسلوب قصصي شيّق جميل يستميل
رغبة الأولاد ويثير فيهم حب الاطّلاع على المجهول ، ويرسّخ في أذهانهم ونفوسهم حبّ
العلم والمعرفة والاستطلاع والاستكشاف لنشر العلم والمعرفة بين الناس ، وتوضيح أثر
وأهمّية العلم والعلماء للأولاد .
وأن يشجّعونهم على زيارة المتاحف ، للتعرّف على ما كان عليه أجدادنا ، وكذلك
زيارة المعارض الحديثة للاطّلاع على معروضاتها الصناعية والعلمية .
وأن يغرسون في أنفسهم مطالعة الصحف والمجلاّت الإسلامية والكتب العلمية النافعة
، فيكون ذلك سبباً في توسيع مداركهم وتنمية عقولهم .
ونرى أنّ الواجب الذي يفرضه عصرنا الذي نعيش فيه ، والتقدّم الهائل والسريع الذي
حدث فيه ، أن يتم تعليم الأولاد بممارسة الطرق والأساليب والآلات والأجهزة الحديثة
للتعلّم واكتساب المعرفة .
والتي منها شبكات الإنترنت التي تتفاضل على سائر وسائل التعليم بالسرعة الفائقة
، والدقّة المتناهية ، وشموليّتها لمختلف المواضيع العلمية والأدبية والثقافية
وغيرها .
الفصل الرابع : التربية الاجتماعية والخلقية :
قال الله عزّ وجلّ مادحاً رسوله ( صلّى الله عليه وآله ) : ( وَلَوْ كُنتَ
فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ) آل عمران : 159 .
بل أبعد من هذا فإنّه سبحانه وتعالى يشهد ويقرّر لرسوله الأكرم ( صلّى الله عليه
وآله ) : ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) القلم : 4 .
والرسول ( صلّى الله عليه وآله ) أيّد ذلك بقوله : ( أدّبني ربّي فأحسن
تأديبي ) ، وقال عن نفسه ( صلّى الله عليه وآله ) : ( بُعثت لأتمّم مكارم
الأخلاق ) .
وبقدر ما يقترن كمال الإنسان وسعادته بحسن خلقه وأدبه ، يقترن انحطاطه وشقاؤه
بسوء خلقه وغلظة تعامله ، وقد ورد عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) يقول في
هذا : ( من ساء خُلقه عذب نفسه ) .
فنستكشف من هذا الحديث النبوي الشريف : أنّ هناك رابطة وعلاقة وطيدة بين تكوين
الإنسان الداخلي وبين السعادة أو الشقاء اللذين يكتنفانه .
فمثلاً نرى الإنسان الحليم الكاظم لغيظه ومحبّ الخير لغيره كما يحبّه لنفسه ،
والذي يحمل في قلبه الحبّ والحنان والعطف والرأفة والشفقة على غيره ، يكون ذلك كلّه
مبعثاً لسعادته وبهجته وسروره واطمئنانه .
وعلى العكس ، حيث نجد الإنسان الخبيث اللئيم الشرّير الأناني الحقود على غيره
يعاني من هذه العقد النفسية ، ويؤذّي نفسه قبل أن يؤذّي غيره ، وقد نسب إلى أمير
المؤمنين ( عليه السلام ) وهو ينصح المؤمن بالصبر وعدم التهوّر في مجابهة أمثال
هؤلاء ، قوله :
اصبر على مضض الحسودِ ** فإنّ صبرك قاتلــه
كالنـار تأكــل بعضـها ** إن لم تجد ما تأكلـه
وبما أنّ الإنسان هو مخلوق مجبول على الحياة الاجتماعية ، لذا نجده يميل إلى
الاجتماع بالآخرين ، ويحبّ أن يعيش ضمن الجماعة .
وقد جاءت الرسالات الإلهية المقدّسة كافّة ـ والإسلامية خاصّة ـ لتبني المجتمع
الإيماني من خلال بناء أفراده ، لأنّ أفرادهم الذين يكوّنون المجتمع ، ويتبادلون مع
الآخرين من أبناء مجتمعهم العادات والتقاليد والاعتقادات المختلفة .
ونرى الإسلام العزيز يحثّ المسلمين ويشجّعهم على تكوين الروابط الاجتماعية
البنّاءة .
وقد جعل لها أساليب وممارسات لطيفة تؤدّي إلى الأُلفة والمحبّة بين أبناء
المجتمع الإسلامي ، كآداب التحية والسلام والمصافحة بين المؤمنين ، وتبادل الزيارات
، وعيادة المرضى ، والمشاركة في تبادل التهاني في الأعياد والمناسبات الدينية
والاجتماعية ، والاهتمام بالجار ، وتسلية أهل المصائب والشدائد ومشاركتهم في عزائهم
لو مات منهم أحد ، وغيرها كثير .
ووضع لكلّ منها قواعد وأصولاً تدخل السرور على المسلمين ، وتكون لهم عوناً
وتهوّن عليهم ما يصيبهم من شرّ وأذى .
ونجد الشريعة الإسلامية تؤكّد حتّى في العبادات على الجانب الاجتماعي ، كأداء
الصلاة جماعة حيث يؤكّد استحبابها ، واجتماع المسلمين لأداء فريضة الحج .
كما أنّ الإسلام يسعى إلى تنظيم علاقة الفرد المسلم بأهل بيته وأقاربه وأصدقائه
وجيرانه ، وقد أوصى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) المسلمين باحترام الجار
ومؤازرته في حالات الفرح والحزن ، واعتباره من الأهل والأقارب ، وورد عنه أنّه قال
: ( ما زال جبريل يوصيني بالجار ، حتّى ظننتُ أنّه سيورّثه ) .
فعلى الوالدين والمربّي والمعلّم تشجيع الأولاد على ممارسة الأفعال والنشاطات
التي توطّد العلاقة وتطيّبها بين هؤلاء الأولاد وسائر أبناء مجتمعهم ، ويعملون على
مراقبتهم وتهذيب أسلوب كلّ ممارسة منها ، ومع من يلتقون ويلعبون ويتجوّلون ويدرسون
، كي لا يحتكّوا بأفراد تسوء تربيتهم فيأخذون منهم ويتعلّمون ما هو مضر وفاسد وقبيح
.
ومرحلة الشباب ـ سيّما فترة المراهقة منها ـ تعتبر من أكثر مراحل حياة الإنسان
شعوراً بالغرور والإعجاب بالنفس ، والاستخفاف بآراء الآخرين من الكبار .
وقد حذّر الله تعالى من ذلك عن لسان لقمان بقوله : ( وَلَا تُصَعِّرْ
خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ
كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) لقمان : 18 .
لأنّ الغرور يذهب ببعض الأفراد إلى المباهاة على والديهم ، والاستخفاف بهما ،
واستخفاف آرائهما ؛ لما يكونون عليه من وضع اجتماعي أو ثقافي غير الذي كان عليه
أبواهم .
فيحذّرهم الجليل جلّت قدرته من ذلك : ( وَقَضَ